الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
فَتَرَاهُ سَمَّى نَاقَتَهُ سَفِينَةَ بَرٍّ وَجُلَبُ الرَّحْلِ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ عِيدَانُهُ أَوِ الرَّحْلُ بِمَا فِيهِ:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْلِهِ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي لَهَا بَيَانٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
يَعْنِي: مَطَرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ غُبَارَ رِيحٍ مُتَتَابِعًا، وَتَاءُ تَتْرَى مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ، وَأَنَّهُ كُلَّ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى أُمَّةٍ كَذَّبُوهُ فَأَهْلَكَهُمْ، وَأَتْبَعَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي الْإِهْلَاكِ الْمُتْسَأْصِلِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ بُيِّنَتْ آيَةُ اسْتِثْنَاءِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الْإِهْلَاكِ الْمَذْكُورِ.أَمَّا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [34/ 34]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [43/ 23]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} الْآيَةَ [7/ 94- 95] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.أَمَّا الْآيَةُ الَّتِي بَيَّنَتِ اسْتِثْنَاءَ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ [10/ 98]، وَظَاهِرُ آيَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّهُمْ آمَنُوا إِيمَانًا حَقًّا، وَأَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِهِ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي الصِّفَاتِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [37/ 147- 148] لِأَنَّ ظَاهِرَ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: فَآمَنُوا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَمِنَ الْأُمَمِ الَّتِي نَصَّ عَلَى أَنَّهُ أَهْلَكَهَا وَجَعَلَهَا أَحَادِيثَ سَبَأٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} الْآيَةَ [34/ 19]، وَقَوْلُهُ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ أَيْ: أَخْبَارًا وَقِصَصًا يُسْمَرُ بِهَا، وَيُتَعَجَّبُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ: وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: تَتْرًا بِالتَّنْوِينِ: وَهِيَ لُغَةُ كِنَانَةَ، وَالْبَاقُونَ بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ: وَهِيَ لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَسَهَّلَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ قَوْلِهِ: {جَآءَ أُمَّةً} وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالتَّحْقِيقِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَوْلُهُ: {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [23/ 44] مَصْدَرٌ لَا يَظْهَرُ عَامِلُهُ، وَقَدْ بَعُدَ بَعَدًا بِفَتْحَتَيْنِ، وَبُعْدًا بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: هَلَكَ فَقَوْلُهُ: بُعْدًا أَيْ: هَلَاكًا مُسْتَأْصِلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [11/ 95] قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ بُعْدًا وَسُحْقًا وَدَفْرًا أَيْ: نَتِنًا مِنَ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ لَا تَظْهَرُ. اهـ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: سَقْيًا وَرَعْيًا، كَقَوْلِ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ: وَالْأَحَادِيثُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} فِي مُفْرَدِهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ حَدِيثٍ كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُرِيدُ بِالْأَحَادِيثِ جَمْعَ حَدِيثٍ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنَ الْجُمُوعِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: يَعْنِي بِالْبَابَيْنِ: التَّكْسِيرَ وَالتَّصْغِيرَ، كَتَكْسِيرِ حَدِيثٍ عَلَى أَحَادِيثَ وَبَاطِلٍ عَلَى أَبَاطِيلَ، وَكَتَصْغِيرِ مَغْرِبٍ، عَلَى مُغَيْرِبَانِ، وَعَشِيَّةً عَلَى عُشَيْشِيَّةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا اسْمُ جَمْعٍ لِلْحَدِيثِ.الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَحَادِيثَ جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ الَّتِي هِيَ مِثْلُ: أُضْحُوكَةٍ، وَأُلْعُوبَةٍ، وَأُعْجُوبَةٍ بِضَمِّ الْأَوَّلِ، وَإِسْكَانِ الثَّانِي: وَهِيَ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ تَلَهِيًّا وَتَعَجُّبًا. وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيْرِ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَنْسَبُ هُنَا لِجَرَيَانِ الْجَمْعِ فِيهِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَجَزَمَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} [23/ 54] لِلتَّهْدِيدِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ وَفِي فَنِّ الْمَعَانِي فِي مَبْحَثِ الْإِنْشَاءِ، أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأْتِي لَهَا صِيغَةُ أَفْعَلَ التَّهْدِيدُ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [15/ 3]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [86/ 17] وَقَوْلِهِ: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [14] وَقَوْلِهِ: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [39/ 8].وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} الْآيَةَ [15/ 3] وَتَكَلَّمْنَا هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ ذَرْهُمْ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} قَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [18/ 36] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَالْجُؤَارُ الْمَذْكُورُ: {هُوَ النِّدَاءُ فِي قَوْلِهِ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [38/ 3]؛ لِأَنَّ نِدَاءَهُمْ نِدَاءُ اسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِصْرَاخٍ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} الْآيَةَ [43/ 77]؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي يَطْلُبُونَهَا، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالْمَوْتِ مِنْ دَوَامِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، أَجَارَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [25/ 13- 14] وَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالثُّبُورِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْهَلَاكِ، وَالْوَيْلُ عَنْ أَنْوَاعِ جُؤَارِهِمْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [23/ 65] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغَاثُوا لَمْ يُغَاثُوا، وَإِنِ اسْتَرْحَمُوا لَمْ يُرْحَمُوا، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [18/ 29].
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا: {أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [40/ 11- 12] فَكُفْرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَحْدَهُ، مِنْ نُكُوصِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ، لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى النُّكُوصِ عَنْهَا، عَلَى أَعْقَابِهِمْ، بَلْ يَكَادُونَ يَبْطِشُونَ بِالَّذِي يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ، لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ لَهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [22/ 72]وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَظْهَرُ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ أَوِ الْجُوعُ، وَمِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ الَّذِينَ يَجْأَرُونَ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّ جُؤَارَهُمْ مِنْ قِبَلِ إِخْوَانِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ:قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} يَتَضَمَّنُ حَضَّهُمْ، عَلَى تَدَبُّرِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهُمْ إِنْ تَدَبَّرُوهُ تَدَبُّرًا صَادِقًا، عَلِمُوا أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُ وَاجِبٌ وَتَصْدِيقُ مَنْ جَاءَ بِهِ لَازِمٌ، وَقَدْ أَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [4/ 82] وَقَوْلِهِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [47/ 24] وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [23/ 68] قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:فَأَنْكَرُوهُ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقِيلَ: أَمْ بِمَعْنَى: بَلْ جَاءَهُمْ مَا لَا عَهْدَ لِآبَائِهِمْ بِهِ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوهُ، وَتَرَكُوا التَّدَبُّرَ لَهُ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَمْ جَاءَهُمْ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَرَّعَهُمْ أَوَّلًا بِتَرْكِ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِأَنَّ مَا جَاءَهُمْ جَاءَ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: إِرْسَالُ الرُّسُلِ لَيْسَ بِدْعًا، وَلَا مُسْتَغْرَبًا، بَلْ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَعَرِفُوا ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ وَنَجَاةِ مَنْ آمَنَ، وَاسْتِئْصَالِ مَنْ كَذَبَ وَآبَاؤُهُمْ إِسْمَاعِيلُ وَأَعْقَابُهُ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} الْآيَةَ [46/ 9] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} الْآيَةَ [10/ 16] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَمُرَادُهُ بِخُلُوِّهَا مِمَّا قُيِّدَتْ بِهِ: أَلَّا تَسْبِقَهَا إِحْدَى الْهَمْزَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، فَإِنْ سَبَقَتْهَا إِحْدَاهُمَا، فَهِيَ الْمُتَّصِلَةُ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى مُتَضَمِّنًا لِلْإِضْرَابِ عَمَّا قَبْلَهُ إِضْرَابًا انْتِقَالِيًّا، مَعَ مَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، فَتَضَمُّنُ الْآيَةِ الْإِنْكَارَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ: أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ جِنَّةٌ أَيْ: جُنُونٌ يَعْنُونَ: أَنَّ هَذَا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ هَذَيَانُ مَجْنُونٍ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ مَا أَجْحَدَهُمْ لِلْحَقِّ! وَمَا أَكْفَرَهُمْ! وَدَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ هَذِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ كَذَّبَهَا اللَّهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [23/ 70] فَالْإِضْرَابُ بِبَلْ إِبْطَالِيٌّ.وَالْمَعْنَى: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ بَلْ هُوَ رَسُولٌ كَرِيمٌ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ، الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّذِي يَعْرِفُ كُلُّ عَاقِلٍ، أَنَّهُ حَقٌّ، وَلَكِنْ عَانَدْتُمْ وَكَفَرْتُمْ لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِكُمْ لِلْحَقِّ، وَمَا نَفَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ الْجُنُونَ صَرَّحَ اللَّهُ بِنَفْيِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [81/ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [52/ 29] وَهَذَا الْجُنُونُ الَّذِي افْتُرِيَ عَلَى آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ، افْتُرِيَ أَيْضًا عَلَى أَوَّلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [23/ 25] وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا إِلَّا قَالَ قَوْمُهُ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، كَأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فَتَوَاصَوْا عَلَى ذَلِكَ لِتَوَاطُؤِ أَقْوَالِهِمْ لِرُسُلِهِمْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [51/ 52- 53] فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ التَّوَاصِي بِهِ؛ لِاخْتِلَافِ أَزْمِنَتِهِمْ، وَأَمْكِنَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الَّذِي جَمَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مُشَابَهَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الطُّغْيَانِ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [2/ 118] فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ تَشَابُهِ مَقَالَاتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ، هُوَ تَشَابُهُ قُلُوبِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَكَرَاهِيَةِ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [23/ 70] ذَكَرَ نَحْوَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} الْآيَةَ [22/ 72] وَذَلِكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي تَعْرِفُهُ فِي وُجُوهِهِمْ، إِنَّمَا هُوَ لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِكَرَاهِيَتِهِمْ لِلْحَقِّ، أَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ سَمَاعِهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَوَّلِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ بِتَوْحِيدِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَهُوَ نُوحٌ: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [71/ 7] وَإِنَّمَا جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ خَوْفَ أَنْ يَسْمَعُوا مَا يَقُولُهُ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الْحَقِّ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي أُمَّةِ آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} الْآيَةَ [41/ 26] فَتَرَى بَعْضَهُمْ يَنْهَى بَعْضًا عَنْ سَمَاعِهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِاللَّغْوِ فِيهِ، كَالصِّيَاحِ وَالتَّصْفِيقِ الْمَانِعِ مِنَ السَّمَاعِ لِكَرَاهَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمُحَاوَلَتِهِمْ أَنْ يَغْلِبُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ.وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سُؤَالُ مَعْرُوفٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [23/ 70] يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ، أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْكُفَّارِ، لَيْسُوا كَارِهِينَ لِلْحَقِّ، وَهَذَا السُّؤَالُ وَارِدٌ أَيْضًا عَلَى آيَةِ الزُّخْرُفِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [43/ 78].وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: هُوَ مَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْكُفَّارِ، كَانُوا لَا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ، وَسَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ هُوَ كَرَاهِيَتُهُمْ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّ سَبَبَهُ الْأَنَفَةُ وَالِاسْتِنْكَافُ مِنْ تَوْبِيخِ قَوْمِهِمْ، وَأَنْ يَقُولُوا صَبَؤُوا وَفَارَقُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَنْ وَقَعَ لَهُ هَذَا أَبُو طَالِبٍ فَإِنَّهُ لَا يَكْرَهُ الْحَقَّ، الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ يَشُدُّ عَضُدَهُ فِي تَبْلِيغِهِ رِسَالَتَهُ كَمَا قَدَّمْنَا فِي شِعْرِهِ فِي قَوْلِهِ:اصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ الْأَبْيَاتِ وَقَالَ فِيهَا: وَقَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا: وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ: أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ لَهُ مِنَ اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ كَرَاهِيَةَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ الْأَنَفَةُ وَالْخَوْفُ مِنْ مَلَامَةِ قَوْمِهِ أَوْ سَبِّهِمْ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
|